شر ما منيت به النفوس يأسٌ يميت القلوب، وقنوطٌ تظلم به الدنيا وتتحطم معه الآمال.
إن في هذه الدنيا مصائب ورزايا ومحناً وبلايا، آلامٌ تضيق بها النفوس، ومزعجاتٌ تورث الخوف والجزع. كم ترى من شاكٍ، وكم تسمع من لوامٍ. يشكو علة وسقماً، أو حاجة وفقراً. متبرمٌ من زوجه وولده، لوامٌ لأهله وعشيرته. ترى من كسدت تجارته وبارت صناعته، وآخر قد ضاع جهده ولم يدرك مرامه.
أن ترى أشباه الرجال قد أتخمت بطونها شبعاً ورياً، وترى أولي عزمٍ ينامون على الطوى[1].
إن فيها من يتعاظم ويتعالى حتى يتطاول على مقام الربوبية والألوهية، وفيها من يستشهدون دفاعاً عن الحق وأهل الحق.
تلك هي الدنيا، تضحك وتبكي، وتجمع وتشتت. شدةٌ ورخاءٌ، وسراءٌ وضراءٌ. دار غرور لمن اغترَّ بها، وهي عبرةٌ لمن اعتبر بها. إنها دار صدقٍ لمن صدقها، وميدان عملٍ لمن عمل فيها:
( لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور) [الحديد:23].
تتنوع فيها الابتلاءات وألوان الفتن، ويبتلى أهلها بالمتضادات والمتباينات( ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون )[الأنبياء:35].
ولكن إذا استحكمت الأزمات، وترادفت الضوائق، فلا مخرج إلا بالإيمان بالله، والتوكل عليه، وحسن الصبر. ذلك هو النور العاصم من التخبط، وهو الدرع الواقي من اليأس والقنوط.
إن من آمن بالله، وعرف حقيقة دنياه، وطَّن نفسه على احتمال المكاره وواجه الأعباء مهما ثقلت، وحسن ظنه بربه، وأمَّل فيه جميل العواقب وكريم العوائد. كل ذلك بقلبٍ لا تشوبه ريبةٌ، ونفسٍ لا تزعزعها كربةٌ، مستيقناً أن بوادر الصفو لا بد آتيةٌ
(وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) [آل عمران:186].
إن أثقال الحياة وشواغلها لا يطيق حملها الضعاف المهازيل. لا ينهض بأعبائها إلا العمالقة الصبَّارون أولو العزم من الناس. أصحاب الهمم العالية.
((أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على حسب دينه))[2] حديثٌ أخرجه الترمذي وغيره، وقال الترمذي حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وأخرج أحمد وأبو يعلى في مسنديهما والطبراني في الكبير والأوسط من معاجمه عن رسول الله قال: ((إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعمل، ابتلاه الله في جسده أو ماله أو ولده ثم صبر على ذلك، حتى يبلغ المنزلة التي سبقت له من الله عزَّ وجلَّ))[3].
كم من محنة في طيها منحٌ ورحماتٌ
هاهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام يضرب المثل
في الرضا عن مولاه والصبر على ما يلقاه صبراً جميلاً،
بعده صبرٌ أجمل مع الأخذ بالأسباب والقوة في الأمل يقول لأبنائه في حاله الأولى
( بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون) [يوسف:18].
ثم يقول في الحال الثاني وهو أعظم أملاً، وبربه أكثر تعلقاً
( بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميلٌ عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنه هو العليم الحكيم )[يوسف:83].
كل ذلك من هذا الشيخ الكبير صاحب القلب الوجيع، ثم يقول:
( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون )[يوسف:86].
ويقينه وقوة رجائه أن أمر أبناءه
( يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون )[يوسف:87].
قال الحسن البصري
كان يعقوب عليه السلام عندما فقد ابنه يوسف الى ان التقيا اربعون سنه ولم يفارق الحزن قلبه ودموعه تجري على خديه حتى فقد بصره.....
ومـــــــــــــا على وجـــــــــه الارض عبد احــــــــب الى الله من يعقوب عليه السلام....
فرد الله يوسف الى ابيه بعد تلك المده لان يعقوب عليه السلام لم يسئم ولم ييئس من رحمــــــــــــــــه الله عز وجل.
إن المؤمن الواثق لا يفقد صفاء العقيدة ونور الإيمان، وإن هو فقد من صافيات الدنيا ما فقد.
أما الإنسان الجزوع فإن له من سوء الطبع ما ينفره من الصبر، ويضيِّق عليه مسالك الفرج إذا نزلت به نازلةٌ أو حلت به كارثةٌ، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وتعجَّل في الخروج متعلقاً بما لا يضرُّه ولا ينفعه.
إن ضعف اليقين عند هؤلاء يصدهم عن الحق ويضلهم عن
الجادة، فيخضعون ويذلون لغير ربِّ الأرباب ومسبِّب الأسباب،
يتملقون العبيد ويتقلبون في أنواع الملق ويكيلون من المديح والثناء
ما يعلمون من أنفسهم أنهم فيه كذَبةٌ أفَّاكون، بل قد يرقى بهم تملقهم
المقيت أن يطعنوا في الآخرين ويقعوا في البرآء من المسلمين.
إن أي مخلوق مهما بلغ من عزٍّ أو منزلة فلن يستطيع قطع رزقٍ، أو ردَّ مقدورٍ، أو انتقاصاً من أجلٍ: (الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم )[الروم:40].
وفي حديث عن أبي سعيد مرفوعاً: ((إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمَّهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا تردُّه كراهية كاره، وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضى واليقين، وجعل الهمَّ والحزن في الشك والسخط))[4].
إن من فقد الثقة بربه اضطربت نفسه، وساء ظنه، وكثرت همومه، وضاقت عليه المسالك، وعجز عن تحمُّل الشدائد، فلا ينظر إلا إلى مستقبل أسود، ولا يترقب إلا الأمل المظلم.
هذه هي حال الدنيا، وذلك هو مسلك الفريقين، فعلام الطمع والهلع؟ ولماذا الضجر والجزع؟!.
لا تتعلق بما لا يمكن الوصول إليه، ولا تحتقر من أظهر الله فضلك عليه، واستيقن أن الله هو العالم بشؤون خلقه، يعزُّ من يشاء ويذلُّ من يشاء. يخفض ويرفع، ويعطي ويمنع، هو أغنى وأقنى، وهو أضحك وأبكى، وهو أمات وأحيا.
إن المؤمن لا تُبطره نعمةٌ، ولا تُجزعه شدةٌ.
،((إن أمر المؤمن كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، ولا يكون ذلك إلا لمؤمنٍ))[5] بهذا صحَّ الخبر عن المصطفى .
فاصبروا، واثبتوا، وأمِّلوا، واكلفوا من العمل ما تطيقون، ولا تطغينَّكم الصحة والثراء، والعزة والرخاء، ولا تضعفنَّكم الأحداث والشدائد ففرج الله آتٍ ورحمتُه قريبٌ من المحسنين.
(ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون)